مشروع الإحياء
مشروع الإحياء
مشروع الإحياء مدونة توفر مقالات تعليمية هادفة في مختلف المجالات

واحر قلباه ممن قلبه شبم... شرح رائعة المتنبي كاملة

مؤمن محمد عبد الستار الاثنين، 24 يونيو 2019
إحياء اللغة
الخيل والليل والبيداء تعرفني

هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي أبو الطيب الكندي الكوفي المولد، والملقب بأبي الطيب المتنبي، عاش أفضل أيام حياته وأكثرها عطاء في بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب وكان من أعظم شعراء العربية. (من ويكيبيديا)

جئت لكم بقصيدة له، وأشرح معانيها الصعبة بإذن الله.

1. وزن القصيدة

بحر البسيط، وإن كنت تريد معرفة معنى بحور الشعر، اقرأ مقال علم العروض.

ومفتاح بحر البسيط:

إن البسيط لديه يبسط الأمل * مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلُ

2. مناسبة القصيدة

حظي المتنبي بمنزلة شريفة لدى سيف الدولة، لكن ذلك لم يعجب حساده ومبغضيه، فأخذوا يوقعون بينه وبين سيف الدولة، فنجحوا في ذلك، فأدرك المتنبي أن القطيعة بينهما قادمة، وقال هذه القصيدة في حضرته، قصيدة يختلط فيها الألم والمدح والعتاب والفخر.

3. نص القصيدة وشرحها

وَا حَرّ قَلْباهُ ممّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ

وَمَنْ بجِسْمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ

ما لي أُكَتِّمُ حُبًّا قَدْ بَرَى جَسَدي

وَتَدّعي حُبّ سَيفِ الدّوْلةِ الأُمَمُ

إنْ كَانَ يَجْمَعُنَا حُبٌّ لِغُرّتِهِ

فَلَيْتَ أنّا بِقَدْرِ الحُبّ نَقْتَسِمُ

قد زُرْتُهُ وَسُيُوفُ الهِنْدِ مُغْمَدَةٌ

وَقد نَظَرْتُ إلَيْهِ وَالسّيُوفُ دَمُ

فكانَ أحْسَنَ خَلقِ الله كُلّهِمِ

وَكانَ أحسنَ ما في الأحسَنِ الشّيَمُ

فَوْتُ العَدُوّ الذي يَمّمْتَهُ ظَفَرٌ

في طَيّهِ أسَفٌ في طَيّهِ نِعَمُ

قد نابَ عنكَ شديدُ الخوْفِ وَاصْطنعتْ

لَكَ المَهابَةُ ما لا تَصْنَعُ البُهَمُ

أَلزَمتَ نَفسَكَ شَيئًا لَيسَ يَلزَمُها

أَن لا يُوارِيَهُم أَرضٌ وَلا عَلَمُ

أكُلّمَا رُمْتَ جَيْشًا فانْثَنَى هَرَبًا

تَصَرّفَتْ بِكَ في آثَارِهِ الهِمَمُ

عَلَيْكَ هَزْمُهُمُ في كلّ مُعْتَرَكٍ

وَمَا عَلَيْكَ بهِمْ عارٌ إذا انهَزَمُوا

أمَا تَرَى ظَفَرًا حُلْوًا سِوَى ظَفَرٍ

تَصافَحَتْ فيهِ بِيضُ الهِنْدِ وَاللِّممُ

يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي

فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ

أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً

أن تحسَبَ الشّحمَ فيمن شحمهُ وَرَمُ

وَمَا انْتِفَاعُ أخي الدّنْيَا بِنَاظِرِهِ

إذا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الأنْوارُ وَالظُّلَمُ

سَيعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا

بأنّني خَيرُ مَنْ تَسْعَى بهِ قَدَمُ

أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي

وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ

أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا

وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ

وَجاهِلٍ مَدّهُ في جَهْلِهِ ضَحِكي

حَتى أتَتْه يَدٌ فَرّاسَةٌ وَفَمُ

إذا رَأيْتَ نُيُوبَ اللّيْثِ بارِزَةً

فَلا تَظُنّنّ أنّ اللّيْثَ يَبْتَسِمُ

وَمُهْجَةٍ مُهْجَتي من هَمّ صَاحِبها

أدرَكْتُهَا بجَوَادٍ ظَهْرُه حَرَمُ

رِجلاهُ في الرّكضِ رِجلٌ وَاليدانِ يَدٌ

وَفِعْلُهُ مَا تُريدُ الكَفُّ وَالقَدَمُ

وَمُرْهَفٍ سرْتُ بينَ الجَحْفَلَينِ بهِ

حتى ضرَبْتُ وَمَوْجُ المَوْتِ يَلْتَطِمُ

الخَيْلُ وَاللّيْلُ وَالبَيْداءُ تَعرِفُني

وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَمُ

صَحِبْتُ في الفَلَواتِ الوَحشَ منفَرِدًا

حتى تَعَجّبَ مني القُورُ وَالأكَمُ

يَا مَنْ يَعِزّ عَلَيْنَا أنْ نُفَارِقَهُمْ

وِجدانُنا كُلَّ شيءٍ بَعدَكمْ عَدَمُ

مَا كانَ أخلَقَنَا مِنكُمْ بتَكرِمَةٍ

لَوْ أنّ أمْرَكُمُ مِن أمرِنَا أمَمُ

إنْ كانَ سَرّكُمُ ما قالَ حاسِدُنَا

فَمَا لجُرْحٍ إذا أرْضاكُمُ ألَمُ

وَبَيْنَنَا لَوْ رَعَيْتُمْ ذاكَ مَعرِفَةٌ

إنّ المَعارِفَ في أهْلِ النُّهَى ذِمَمُ

كم تَطْلُبُونَ لَنَا عَيْبًا فيُعجِزُكمْ

وَيَكْرَهُ الله ما تَأتُونَ وَالكَرَمُ

ما أبعدَ العَيبَ والنّقصانَ منْ شرَفي

أنَا الثّرَيّا وَذانِ الشّيبُ وَالهَرَمُ

لَيْتَ الغَمَامَ الذي عندي صَواعِقُهُ

يُزيلُهُنّ إلى مَنْ عِنْدَهُ الدِّيَمُ

أرَى النّوَى يَقتَضيني كلَّ مَرْحَلَةٍ

لا تَسْتَقِلّ بها الوَخّادَةُ الرُّسُمُ

لَئِنْ تَرَكْنَ ضُمَيرًا عَنْ مَيامِنِنا

لَيَحْدُثَنّ لمَنْ وَدّعْتُهُمْ نَدَمُ

إذا تَرَحّلْتَ عن قَوْمٍ وَقَد قَدَرُوا

أنْ لا تُفارِقَهُمْ فالرّاحِلونَ هُمُ

شَرُّ البِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بِهِ

وَشَرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ

وَشَرُّ ما قَنّصَتْهُ رَاحَتي قَنَصٌ

شُهْبُ البُزاةِ سَواءٌ فيهِ والرَّخَمُ

بأيّ لَفْظٍ تَقُولُ الشّعْرَ زِعْنِفَةٌ

تَجُوزُ عِندَكَ لا عُرْبٌ وَلا عَجَمُ

هَذا عِتابُكَ إلاّ أنّهُ مِقَةٌ

قد ضُمّنَ الدُّرَّ إلاّ أنّهُ كَلِمُ

كما ترون.. القصيدة طويلة، نحو أربعين بيتا، لهذا رقمت الأبيات حتى يسهل عليكم البحث عن شرح بيت معين، إذًا بسم الله نبدأ!

1. مدح سيف الدولة

يبدأ الشاعر بذكاء وبراعة، فيفتتح قصيدته بمدح جميل لسيف الدولة حتى يكتسب مودته، فيقول:

وَا حَرّ قَلْباهُ ممّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ

وَمَنْ بجِسْمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ

وا حر قلباه: هذا يسمى أسلوب ندبة، يستخدم لتعبير عن التفجع على شيء ما، كأن يقال وا محمداه فهو يتفجع على محمد، أو أن يقول وا رأساه يعبر عن ألم في رأسه، أو كالجملة الشهيرة لقطز وا إسلاماه!.

وا هو حرف نداء وندبة، ثم قد يضع القائل ألف الندبة لتأكيد شعوره، وهي الألف التي أضيفت إلى قلباه، ثم قد ننتهي بهاء هي هاء السكت.

والشبِمُ: هو البارد، والشبَم (بفتح الباء) هو البرد، ونقول خير الماء الشبِم: أي خير الماء هو الماء البارد، ولكن في البيت قلبه شبم لا تعني البارد بالمعنى الحرفي، بل يقصد بالقلب الشبم أي البارد قليل الحس.

والسقم: هو المرض، وسَقِمَ وسَقُمَ (بضم أو فتح القاف) يَسْقُمُ سُقْمًا وسَقَمًا وسَقامًا وسَقامَةً فهو سقيم أو سَقِمٌ: أي مريض.

فالشاعر بدأ قصيدته يندب حرارة قلبه التي سببها ندمه وتحسره ممن قلبه بارد عديم الحس، ومن سبب له السقم بجسمه وحاله.

ما لي أُكَتِّمُ حُبًّا قَدْ بَرَى جَسَدي

وَتَدّعي حُبّ سَيفِ الدّوْلةِ الأُمَمُ

أُكتِّمُ: أي أكتم وأخبئ، لكن تشديد التاء فيه قوة زائدة للفعل، فالفعل (أكتِّم) يعني كتمانا أقوى من (أكتُم). يرجى العلم أن ذلك ليس قاعدة قياسية، فلا تطبقها على كل الأفعال فتشدد حرفا ليدل على قوة الفعل، ليست كل الأفعال كذلك.

برى السهم يَبْرِي بَرْيًا: نحته، وهو يقصد بـبرى جسدي أي أنحله بسبب المرض.

ثم يبدأ بالتعبير عن حبه الخالص لسيف الدولة ويتعجب قائلًا: "ما أعجب الأمر! لماذا أكتم حبي الصادق لسيف الدولة، مع أن الأمم تدعي حبه كذبا؟!"

إنْ كَانَ يَجْمَعُنَا حُبٌّ لِغُرّتِهِ

فَلَيْتَ أنّا بِقَدْرِ الحُبّ نَقْتَسِمُ

غرة الرجل: طلعته ووجهه، هذا معناها في البيت.

ولكن (غرة) لها معانٍ كثير أخرى، مثلا: غرة الشهر: أوله، وغرة القوم: شريفهم، وغرة النبات: رأسه.

ثم أكد حبه لسيف الدولة قائلا "لو أن حب سيف الدولة يجمع بيني وبين هؤلاء، فليتنا نقتسم عطاياه ومكارمه بقدر حبنا له، لأني أكثر من يحبه بينهم وأصدقهم إخلاصا له، وسأكون أكثر نصيبا منهم في هذه الحالة."

قد زُرْتُهُ وَسُيُوفُ الهِنْدِ مُغْمَدَةٌ

وَقد نَظَرْتُ إلَيْهِ وَالسّيُوفُ دَمُ

فكانَ أحْسَنَ خَلقِ الله كُلّهِمِ

وَكانَ أحسنَ ما في الأحسَنِ الشّيَمُ

الغِمْد: غلاف السيف، وغَمَد السيف غَمْدًا وغَمَدًا: أي أدخله في غِمده. وأغمد السيف أيضا بمعنى غمده.

وقد خص سيوف الهند لأن السيوف المصنوعة من حديد الهند كانت معروفة بقوتها، وكان السيف المصنوع من حديد الهند يقال له سيف مُهَنَّد.

والشِّيَمُ: جمع شِيْمَة، وهي الخُلُق.

فهو يقصد في هذا البيت أنه كان مع سيف الدولة وبخدمته وبجانبه في السلم (حيث السيوف مغمدة) والحرب (حيث السيوف في الدم).

ثم قال عنه أنه كان أحسن الناس، وكان أحسن ما فيه شيمه الحسنة، سواء في السلم والحرب.

فَوْتُ العَدُوّ الذي يَمّمْتَهُ ظَفَرٌ

في طَيّهِ أسَفٌ في طَيّهِ نِعَمُ

فات عنه يفوت فَوْتًا: أي ذهب عنه.

ويمَّمْتَه تيمُّمًا: أي قصدته، فنحن نقول مثلا يممه بالرمح أي قصده تعمدا.

و(يمم) لها معنى آخر، فنحن نقول يمم المريض للصلاة أي مسح يديه ووجهه بالتراب.

والظفر: هو النصر، وظَفِرَ الشيء يظْفِره ظَفْرًا: أي ناله وكسبه، وظفر بالشيء أي ناله أيضًا، وظفر على عدوه: أي غلبه.

فهو يقول لسيف الدولة: "إن فوت العدو الذي فر منك نصر لك في فراره، ولكن في طياته يحمل أسف لعدم بلوغه وقتله، وفي طيات هذا الأسف نِعمة لعدم خسارة دماء جيوشك في الحروب."

قد نابَ عنكَ شديدُ الخوْفِ وَاصْطنعتْ

لَكَ المَهابَةُ ما لا تَصْنَعُ البُهَمُ

البُهَمُ: جمع بُهْمَة، ولها معان كثيرة، ولكن معنى بهمة هنا هو الجيش.

وفي حروبك ينوب عنك في القتال — الخوف الشديد منك، وقد صنعت لك مهابتك ما لم يصنع مهابة أي جيش، فمهابتك أعظم من مهابة الجيوش.

أَلزَمتَ نَفسَكَ شَيئًا لَيسَ يَلزَمُها

أَن لا يُوارِيَهُم أَرضٌ وَلا عَلَمُ

يواريهم: يخفيهم ويسترهم، ووارى الكنز: أي أخفاه.

ألزمت نفسك أن تتبع أعداءك أينما اختبئوا وألا تتركهم، وهذا أمر لا يلزمك.

أكُلّمَا رُمْتَ جَيْشًا فانْثَنَى هَرَبًا

تَصَرّفَتْ بِكَ في آثَارِهِ الهِمَمُ

رام هدفا: أي قصده، ونقول رامَ يروم رَوْمًا ومرامًا.

والهمم: جمع هِمَّة وهي العزيمة لفعل أمر.

أكلما هدفت إلى جيش وطلبته فارتد منهزما هاربا عزمت دفعتك همتك أن تقتفي آثاره للحاق به؟!

عَلَيْكَ هَزْمُهُمُ في كلّ مُعْتَرَكٍ

وَمَا عَلَيْكَ بهِمْ عارٌ إذا انهَزَمُوا

معترك: اسم مكان من الفعل (اعترك)، واعتركوا أي تقاتلوا وتحاربوا، لذا فالمعترك هو مكان القتال.

عليك أن تهزمهم في كل ساحة وكل حرب، ولا عار عليك ولا خزي إذا تمكنوا من الهرب والفرار بعد الهزيمة.

أمَا تَرَى ظَفَرًا حُلْوًا سِوَى ظَفَرٍ

تَصافَحَتْ فيهِ بِيضُ الهِنْدِ وَاللِّممُ

اللِّمَمُ: جمع لِمّة: وهو شعر يجاوز شحم الأذن، فإذا بلغ المنكبين صار جُمَّةً. وهو غير اللَّمَم بفتح اللام والتي تعني صغار الذنوب.

وهل ترى نصرًا أجمل من ذلك النصر الذي تضرب فيه رءوس أعدائك وتتصافح سيوفك من شعورهم؟

2. التحول من المدح إلى العتاب

ثم يتحول الشاعر من مدح سيف الدولة إلى عتابه فيقول:

يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي

فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ

هنا بيت يختلط فيه مدح وذم وعتاب، فمدحه بأنه أعدل الناس، ولكن الذم والعتاب هو أن هذا العدل لا يشمل الشاعر، فيقول لسيف الدولة:

أنت أعدل الناس إلا إذا عاملتني، فقد حدث خصام بيننا، وأنا لا أستطيع أن أحاكمك لغيرك لأنك ملك، حينها تكون أنت الخصم وأنت الحكم بيننا، فأين العدل إذًا؟!

أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً

أن تحسَبَ الشّحمَ فيمن شحمهُ وَرَمُ

أعاذ الشيء بالله: ألجأه لله وأحصنه به.

أما الهاء في (أعيذها) فهي عائدة على نظرات، وقد جاء في تفسير الواحدي لديوان المتنبي:

الهاء في أعيذها راجعة إلى النظرات وأجاز مثله الأخفش لأنه أجاز في قوله تعالى فإنها لا تعمى الأبصار أن تكون الهاء عائدةً على الأبصار وغيره من النحويين يقولون أنها إضمار على شريطة التفسير كأنه فسر الهاء بالنظرات.

ونظرات صادقة: أي نظرات تصدقك وتظهر لك الحقيقة ولا تغلط فيما تراه.

والشحم: هو السمن، والشحيم هو السمين.

والورم: هو النتوء أو الانتفاخ.

إذا ما يقصده:

أعيذ بالله نظراتك -التي تصدقك دائمًا- أن تخدعك فلا تفرق بيني ومن يتظاهرون بأنهم في مثل فضلي، مثلما أن تخدعك عينك فترى نتوئًا فيظنه شحما وهو مجرد ورم.

وَمَا انْتِفَاعُ أخي الدّنْيَا بِنَاظِرِهِ

إذا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الأنْوارُ وَالظُّلَمُ

ناظر المرء: عينه. والأنوار: جمع نور، والظُّلَمُ: جمع ظُلْمَة.

إذ يتساءل الشاعر قائلًا: وما نفع العين للمرء إذا كانت الظلمة والنور بالنسبة له شيئا واحدا، ومستويان عنده في عينه، وكذلك ما فائدة ناظرك (أو عقلك وفكرك) أيها الملك إذا لم تستطع أن تفرق بيني وبين من يدعون مثل فضلي؟

إذا لاحظت سترى الشاعر تدريجيا يسير نحو الفخر على هؤلاء القوم الذين فضلهم الملك، والآن سيبدأ بالفخر علنا وصراحةً.

سَيعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا

بأنّني خَيرُ مَنْ تَسْعَى بهِ قَدَمُ

أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي

وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ

تسعى القدم: هي مجاز يقصد به مشي القدم.

كل من في مجلسنا الآن سيعلمون أني خير من تمشي به قدم (يقصد: خير من يمشى على الأرض).

فأنا من بلاغتي ورقي أدبي جعلت الأعمى ينظر إلى أدبي، وجعلت الأصم يسمع كلماتي الفصيحة.

أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا

وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ

المِلْءُ: هو ما يأخذه الإناء حتى يمتلئ، فنقول مثلًا أعطني ملء هذا الإناء، أو ملئين، أو ثلاثة أملاء هذا الإناء. أي مقدار ما يملأ إناءً أو إناءين أو ثلاثة آنية.

تقدير الشطر الأول هو: أنام نومًا ملء جفوني، فكلمة (ملء) هي نائب عن مفعول مطلق، لأنها في التقدير تكون نعتًا للمفعول المطلق (نومًا)، أما بعد حذف المفعول المطلق نعربها نائبا عن المفعول المطلق.

المهم بعد هذا الإرباك أن المعنى هو: أنام نومًا كافيا لملء جفوني....

وشرَدَت الإبل تَشْرُد شَرْدًا وشرودًا وشِرادًا: أي نفرت وانتشرت وتفرقت، ويقصد بالشوارد أي الأشعار السائرة التي تنتشر بين الناس ويقولها كل الناس، فهي مثل الإبل الشاردة المنتشرة.

وجرَّاها: أي بسببها، والتقدير (من جَرَّائِهَافحذفت الهمزة لتخفيف، وحذف حرف الجر، ولكن لنحذف حرف الجر علينا أن نجعل الكلمة منصوبة لا مجرورة، وهذا يسمَّى المنصوب على نزع الخافض، وهو المنصوب الذي نصبناه لأننا حذفنا حرف الدر منه.

المهم! المعنى هو:

أنام ونومي يملأ جفوني ويريحها عن أشعاري المنتشرة فأنا أمتلكها بسهولة، أما باقي الناس فيسهرون بسببها ويختصمون عليها حتى يظفروا منها شيئا.

وَجاهِلٍ مَدّهُ في جَهْلِهِ ضَحِكي

حَتى أتَتْه يَدٌ فَرّاسَةٌ وَفَمُ

إذا رَأيْتَ نُيُوبَ اللّيْثِ بارِزَةً

فَلا تَظُنّنّ أنّ اللّيْثَ يَبْتَسِمُ

الواو في بداية البيت الأول هي واو رُبَّ، وتأتي لتفيد الاحتمال، ويأتي بعدها اسم مجرور لفظا مرفوع محلا.

(ضحكي) هو فاعل (مدَّه)، لذا فالمعنى هو مدَّه ضحكي في جهله).

والليث هو الأسد والجمع ليوث.

ورب جاهل أحمق زاده ضحكي جهلًا وغره واغتر بي، حتى فوجئ بيد وفم تفترسانه!

يشبه ذلك الأسد إذا كشر عن أنيابه وأظهرها، فهو لا يبتسم بل إن نيته الافتراس.

والشاعر يقصد أن يمهل لعدوه حتى يقضي عليه.وقد جاء في شرح الواحدي لديوان المتنبي:

معنى البيت من قول الطائي: قد قلصت شفتاه من حفيظته، فخُيِّلَ من شدة التعبيس مبتسما

وَمُهْجَةٍ مُهْجَتي من هَمّ صَاحِبها

أدرَكْتُهَا بجَوَادٍ ظَهْرُه حَرَمُ

المهجة هي الروح، وقد يقال صعدت مهجته أي توفي أو يقال أبذل لوطني مهجتي أي أبذل حياتي،
والجمع مُهَج.

وهنا يجب أن نعرب الشطر حتى نفهمه. الواو كما قلنا هي الواو التي تأتي بمعنى "رٌبَّ"، "مهجة" مبتدأ مجرور لفظًا (بسبب الواو) مرفوع محلًّا، الهاء في "صاحبها" تعود على المهجة الأولى، والجملة "مُهْجَتي من هَمّ صَاحِبها" كلها في محل خبر.

مربك! أليس كذلك؟ دعك من ذلك الإعراب، المهم أن المعنى هو "ورُبَّ روحٍ تكون مهجتي من هَمِّ صاحب تلك الروح" أي أن روحي تكون أحد هموم مَالِكِ تلك الروح، أي أن مالك تلك الروح يريد قتلي، لذا قال "وَمُهْجَةٍ مُهْجَتي من هَمِّ صَاحِبها" أي أن مهجتي أحد هموم صاحب المهجة.

الجواد: هو النجيب من الخيل، والجمع جِيَاد.

وحَرَمُ الرجل: هو ما يحميه الرجل ويقاتل عنه، والجمع أحرام.

ورُبَّ روحٍ تكون مهجتي من أحد هموم صاحب تلك الروح، فأدرك وألحق تلك الروح بجواد يحمي من في ظهره من أي خطر، فيكون ظهره حرمًا آمنًا.

رِجلاهُ في الرّكضِ رِجلٌ وَاليدانِ يَدٌ

وَفِعْلُهُ مَا تُريدُ الكَفُّ وَالقَدَمُ

يركض هذا الخيل في حسن مشي واستواء في وقع قوائمه! كأن رجلاه رجل واحد يضعهما ويرفعهما معًا، وكأن يداه يد واحدة يضعهما ويرفعهما معًا. كما أن ما يفعله يغنيني عن استعمال يداي وقدماي، فهو يفعل ما تريد يدي وقدمي.

وَمُرْهَفٍ سرْتُ بينَ الجَحْفَلَينِ بهِ

حتى ضرَبْتُ وَمَوْجُ المَوْتِ يَلْتَطِمُ

المرهف: الرقيق الضعيف، ورهف السيف: رققه، وفي البيت يقصد رُبَّ سيف ضعيف...

والجحفل هو الجيش الكثير والجمع جحافل.

ورُبَّ سيف ضعيف رقيق دخلت به بين الجيشين الكثيرين، وغم أن السيف ضعيف فإني ضربت به الأعناق وأمواج الموت تتدفق وتلتطم.

الخَيْلُ وَاللّيْلُ وَالبَيْداءُ تَعرِفُني

وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَمُ

وهذا بيت مشهور للمتنبي. البيداء هي الصحراء، وسميت كذلك لأنها تبيد صاحبها، والقرطاس هو الصحيفة يكتب فيها والجمع قراطيس،

فالشاعر يفخر بنفسه أمام أولئك الحساد الباغضين، فالخيل تعرفه لكثرة ركوبها ولفروسيته، والليل يعرفه لكثرة سعيه فيه، والبيداء تعرفه لأنه يسلكها كثيرًا دون خوف، والسيف والرمح يعرفانه ويشهدان له فروسيته في الحروب، والقرطاس والقلم يشهدان له كتابة فصيح الشعر..

صَحِبْتُ في الفَلَواتِ الوَحشَ منفَرِدًا

حتى تَعَجّبَ مني القُورُ وَالأكَمُ

الفلوات جمع فلاة وهي الأرض الواسعة المقفرة أجارك الله، والقور جمع قارَة، ليس قارَّة، قارَة بدون تشديد راء وهي الأكمة.

والأكمة تل يرتفع عما حوله من أرض، وهو غليظ فلا يكون صخرة، وهو قليل الارتفاع فلا يكون جبلًا.

والأكَمُ جمع أكمة. وجمع أكَم إكام مثل جبل وجبال، وجمع إكام أُكُم مثل كتاب وكتب، وجمع أُكم آكام مثل عنق وأعناق.

فالشاعر يقول أنه سار في الفلاة منفردًا وصحب فيها وحوشها منفردًا حتى تعجبت منه الأكَمُ.

يَا مَنْ يَعِزّ عَلَيْنَا أنْ نُفَارِقَهُمْ

وِجدانُنا كُلَّ شيءٍ بَعدَكمْ عَدَمُ

مَا كانَ أخلَقَنَا مِنكُمْ بتَكرِمَةٍ

لَوْ أنّ أمْرَكُمُ مِن أمرِنَا أمَمُ

وِجدان في أول بيت، أتعلم معناها؟

أجل، هو العاطفة والشعور.

كلَّا، في هذا البيت يكون معناها مصدرًا للفعل وجد، فنقول وجد وِجدانًا كأتى إتيانًا وذهب ذهابًا وهكذا.

فهو يقصد: يا أولئك الذين نحبهم، صرنا نجد كل شيء بعدكم عدمًا، فليس لكم بدل بعدكم.

سأكون حذرًا عندما تسألني مجددًا، ماذا عن البيت الثاني؟

ما هنا هي اسم تعجب، مثل ما أجمل السماء ونحوه، وأخلقنا أي أحرانا وأجدرنا، أما (كان) بعدها فهي مهملة لا عمل لها، والأمَمُ هو القرب.

فهو يقصد: ما أجدرنا بالتكرمة منكم لو أن كانت الأمور بيننا وأحوالنا تقارب ومحبة.

إنْ كانَ سَرّكُمُ ما قالَ حاسِدُنَا

فَمَا لجُرْحٍ إذا أرْضاكُمُ ألَمُ

وَبَيْنَنَا لَوْ رَعَيْتُمْ ذاكَ مَعرِفَةٌ

إنّ المَعارِفَ في أهْلِ النُّهَى ذِمَمُ

يقصد في البيت الأول: لو كنتم أفرحكم بما قاله حسادنا عنا، وكان ذلك يرضيكم، فنحن راضون بذلك، لأن الجرح الذي يرضيكم ليس له ألم.

وفي البيت الثاني: النُّهى هي العقول، وهو جمع نُهْية.

نعم قد علمت ذلك، فقد قال الله تعالى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى [طه:54]

أحسنت! أما الذمم هي العهود والمفرد ذمة.

فهو يقول: إن بيننا -لو أنكم ترعون ذلك وتحفظونه- معرفة، والمعرفة عند أهل العقل ذمم ومواثيق.

كم تَطْلُبُونَ لَنَا عَيْبًا فيُعجِزُكمْ

وَيَكْرَهُ الله ما تَأتُونَ وَالكَرَمُ

ما أبعدَ العَيبَ والنّقصانَ منْ شرَفي

أنَا الثّرَيّا وَذانِ الشّيبُ وَالهَرَمُ

هو يقصد: كم أنكم تتبعون عيوبنا وتبحثون لها فيعجزكم وجودها، والله يكره هذا الفعل، والكرم والشيم الكريمة تكره هذا الفعل.

والثريا هي مجموعة نجوم لامعة في السماء عند عنق الثور، وذان هو اسم إشارة للمثنى، بمعنى (هذان)، والهَرَم هو الشيب والكبر.

فهو يقول: يا لسذاجتكم عند بحثكم عن عيوبي، فما أبعد العيوب عن شرفي، فأنا في عظمتي مثل الثريا في السماء أعلو عن العيوب، وهذان الشيب والهرم، فما دامت الثريا لا تشيب ولا تهرم فأنا لا يمسني عيب.

لَيْتَ الغَمَامَ الذي عندي صَواعِقُهُ

يُزيلُهُنّ إلى مَنْ عِنْدَهُ الدِّيَمُ

الدِّيَم جمع دَيْمَة وهي المطر بلا برق أو رعد، وهي المرجوة من الغمام كما تعلم، أما الصواعق مكروهة، فهو يقول: ليت الغمام الذي يضربني بصواعقه يزيل تلك الصواعق إلى من عنده ديم، وليت الشر يزال من عندي إلى من لديه الخير.

أرَى النّوَى يَقتَضيني كلَّ مَرْحَلَةٍ

لا تَسْتَقِلّ بها الوَخّادَةُ الرُّسُمُ

النوى هو البُعْدُ، ويقتضيني أي يكلفني، والمرحلة هي الرحيل والسفر، وتستقل أي تمضى وترحل، والوخَّادة هي الناقة واسعة الخطوة، من الوخد وهو سعة الخطو في المشي.

أما الرُّسُم فهي جمع رَسُوم، وهي الناقة التي تؤثر في الأرض من شدة وطئها

أي أنه يقول: إن البعد والجفاء الذي تصنعه لي يكلفني سيرًا ورحيلا لا تقوم به الناقة القوية السريعة.

لَئِنْ تَرَكْنَ ضُمَيرًا عَنْ مَيامِنِنا

لَيَحْدُثَنّ لمَنْ وَدّعْتُهُمْ نَدَمُ

ضُمَير هو جبل عن يمين الراحل بين مصر والشام، والميامن جمع ميمنة وهي ناحية اليمين.

نون النسوة هنا تعود على النوق الوخادات، فهو يقصد: البعد عنكم يكلفني سيرًا كثيرًا، ولئن رحلت مع إبلي وتركنا ضميرًا عن يميننا راحلين إلى مصرَ، فإنك ستندم على توديعي وفراقي. وقد كان ما قال..

إذا تَرَحّلْتَ عن قَوْمٍ وَقَد قَدَرُوا

أنْ لا تُفارِقَهُمْ فالرّاحِلونَ هُمُ

شَرُّ البِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بِهِ

وَشَرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ

يقصد: إذا رحلتَ عن قوم وقد كانوا قادرين على أن يكرموك ويقنعوك ألا ترحل، إذًا فهم من اختاروا أن ترحل لا أنت، ويريد بهذا أن يقيم عليهم الحجة في فراقهم وأنهم من ألجئوه إلى الفراق.

ذلك لأن أسوأ مكان نقيم فيه هو مكان لا صديق به، وأسوأ شيء يكسبه الإنسان هو شيء يعيبه وينقص كرامته، آه، نسيت.. يَصِمُ أي يعيب من وَصَمَ يصم وَصْمًا ووصْمَة.

وَشَرُّ ما قَنّصَتْهُ رَاحَتي قَنَصٌ

شُهْبُ البُزاةِ سَواءٌ فيهِ والرَّخَمُ

القَنَص هو الصيد، والشُهْب هو سواد يشقه بياض. البزاة جمع بازٍ وهو نوع طير قوي من الصقور، أما الرَّخَم فجمع رَخْمة وهو طائر أبقع ضعيف، يقصد: أسوأ صيد أصطاده صيدٌ يستوي فيه القوي والضعيف، أي أنك ساويت بيني وبين ضعاف الشعراء في المكانة.

بأيّ لَفْظٍ تَقُولُ الشّعْرَ زِعْنِفَةٌ

تَجُوزُ عِندَكَ لا عُرْبٌ وَلا عَجَمُ

الزعنفة هي الجماعة من كل شيء، فهو يستنكر قائلًا: كيف تقول لديك الشِعْر هذه الزعنفة التي جمعت أوباش الناس، فهم في كلامهم ليسوا عربًا ولا عجمًا، فهم ليسوا شيئًا.

هَذا عِتابُكَ إلاّ أنّهُ مِقَةٌ

قد ضُمّنَ الدُّرَّ إلاّ أنّهُ كَلِمُ

المِقة هي المحبة، فهو يقصد: هذا الكلام عتاب لك لكنه محبة لك وودٌّ، قد تضمن درًّا لحسن نظمه لكنه كلام وشعر.


كانت مصادري: المعجم الوسيط ولسان العرب والقاموس المحيط.