
هو عنترة بن شداد العبسي، أحد أشهر شعراء العرب في العصر الجاهلي، وله معلقته المشهورة التي يبدأ فيها قائلا:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم
اشتهرت تلك القصيدة حتى صارت تعد من المعلقات السبعة.
آتي لكم هنا بقصيدة له وأشرحها بإذن الله:
1. وزن القصيدة:
بحر الوافر، وإن كنت تريد معرفة معنى بحور الشعر، اقرأ علم العروض.
2. مناسبة القصيدة:
خرج عن قومه (عبس) غضبان وأقام لدى بني عامر، فأغار أثناء ذلك قبيلتي هوازن وجشم على ديار عبس، وكان عنترة من أقوى فرسان عبس، لذا فعدم وجوده ضعف لهم، فأرسل له سيد القبيلة يستمده حتى يساعدهم، فلم يجب عنترة، فلما اشتد الخطب أتت له جماعة من النساء يحثثنه على مقاومة العدو وإلا تفرق الشمل وانقلعت العشيرة، فتحمس ونهض إلى قومه.
3. نص القصيدة وشرحها
سكتُّ فَغَرَّ أعْدَائي السُّكوتُ
وَظنُّوني لأَهلي قَدْ نسِيتُ
وكيفَ أنامُ عنْ ساداتِ قومٍ
أنا في فَضْلِ نِعْمتِهمْ رَبيت
وإنْ دارَتْ بِهِمْ خَيْلُ الأَعادي
ونَادوني أجَبْتُ متى دُعِيتُ
بسيفٍ حدهُ يزجي المنايا
وَرُمحٍ صَدْرُهُ الحَتْفُ المُميتُ
خلقتُ من الحديدِ أشدَّ قلبًا
وقد بليَ الحديدُ وما بليتُ
وفي الحَرْبِ العَوانِ وُلِدْتُ طِفْلا
ومِنْ لبَنِ المَعامِعِ قَدْ سُقِيتُ
وَإني قَدْ شَربْتُ دَمَ الأَعادي
بأقحافِ الرُّءوس وَما رُويتُ
فما للرمحِ في جسمي نصيبٌ
ولا للسيفِ في أعضاي َقوتُ
ولي بيتٌ علا فَلَكَ الثريَّا
تَخِرُّ لِعُظْمِ هَيْبَتِهِ البُيوتُ
إذا فلنفهم تلك الأبيات بيتا بيتا:
سكتُّ فَغَرَّ أعْدَائي السُّكوتُ
وَظنُّوني لأَهلي قَدْ نسِيتُ
غَرَّ الشيء فلانا: أي خدعه وأعجبه باطلا، والكلام في أصله غر السكوت أعدائي
: أي أن سكوتي عن ما يحدث في الحرب خدع أعدائي، فالسكوت فاعل، وأعدائي مفعول به.
ومنه قول الله تعالى: ... وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ... [الأنعام:70]
أما عندما تقول: ما غرك بفلان
: أي ما جرَّأك عليه.
ومنه قول الله تعالى يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ.
يقول: خُدِعَ أعدائي بسكوتي وسكوني لهم، وظنوني أنني قد نسيت أهلي ولا أريد نصرهم.
وكيفَ أنامُ عنْ ساداتِ قومٍ
أنا في فَضْلِ نِعْمتِهمْ رَبيت
رَبِيتُ ورَبَوْتُ في قوم: أي نشأت فيهم.
وكيف لي أن أغفل وأتجاهل قوما نعمت معهم ولهم فضل كبير عليَّ، وأنا من هذا الفضل كبرت ونشأت، وكيف أتجاهل أسياد القوم الذين لهم فضل كبير عليَّ.
وإنْ دارَتْ بِهِمْ خَيْلُ الأَعادي
ونَادوني أجَبْتُ متى دُعِيتُ
دارت عليه الدوائر ودار الخطب ودارت المشكلة: أي حلَّت ونزلت عليه.
والأعادي جمع عدو.
و"متى" أداة شرط تدل على الزمان، يقصد بها أجبت إذا دعيت
.
فإني سوف أجيب دعوة قومي واستغاثتهم عندما تهاجم عليهم خيول الأعداء، وسوف ألبي النداء متى نادوني.
بسيفٍ حدهُ يزجي المنايا
وَرُمحٍ صَدْرُهُ الحَتْفُ المُميتُ
أزجى الإبل ونحوه: أي ساقها، والريح تُزجي السحاب: أي تسوقها برفق، فهو أزجى يُزجي إزجاءً.
والمَنَايَا جمع مَنِيَّة: وهي الموت.
وصدر كل شيء: أوله وبدايته.
والحتف هو الموت والهلاك، وجمعه حتوف.
يقول: وأستعين بسيف حاد مميت يجلب الموت، ورمح يؤدي طرفه الحاد إلى الهلاك والموت.
خلقتُ من الحديدِ أشدَّ قلبًا
وقد بليَ الحديدُ وما بليتُ
بلى الثوب ونحوه: أي فنى وتلاشى، فهو يبلى، والمصدر منه يبلى بِلًى وبَلَاءً.
وهنا يفخر الشاعر بنفسه ويعظمها قائلا: "وإن لي قلبا أشد من الحديد، حتى أن الحديد قد يبلى ولا أبلى"، وفي تشبيه قلبه بالحديد كناية عن شجاعة قلبه.
وفي الحَرْبِ العَوانِ وُلِدْتُ طِفْلا
ومِنْ لبَنِ المَعامِعِ قَدْ سُقِيتُ
الحرب العوان هي الحرب التي يُقاتَل فيها مرة بعد مرة، والحرب العوان أي الحرب الشديدة.
وجمع عوان: عون. وأصل ذلك هو أن البقرة التي تكون متوسطة السن تسمى بقرة عوان، فكأن الحرب كبرت وصارت متوسطة السن. ومنه قول الله تعالى ... إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ... [البقرة:68]
والمعامع جمع معمعة، وهي شدة الحرب والجد في القتال.
لذا فإن الشاعر يفخر بشجاعته وقوته ويكني عن فروسيته قائلا أنه ولد في أرجاء الحرب الشديدة كثيرة القتال، وأنه لما رضع شرب من لبن الحروب.
وَإني قَدْ شَربْتُ دَمَ الأَعادي
بأقحافِ الرُّءوس وَما رُويتُ
أقحاف جمع قحف: وهو ما فوق الدماغ من عظام الجمجمة،وما انفلق منها من عظام فبان، ولا يقال للجمجمة قحفا حتى ينكسر منها شيء، وإن قطعت منه قطعة فهو قحف أيضا، وما وجمع قحف أقحاف وقحوف وقِحَفَة.
ويصف عنترة تغلبه على أعدائه وتعطشه لقتلهم وتكسير رءوسهم، فهو قد شرب دماءهم من أقحافهم ولم يرتوي ولم يشبع.
فما للرمحِ في جسمي نصيبٌ
ولا للسيفِ في أعضاي َقوتُ
أعضايَ: أصلها أعضائي، وحذفت الهمزة للتخفيف، كأن تخفف كلمة السماء إلى السما.
والقوت هو الرزق والطعام وجمعها أقوات.
فلن يجد الرمح طريقا لي أو لجسمي وليس له نصيب مني، ولا قوت ولا طعام في أعضائي للسيف، فهما لا حظ لهما فيَّ.
ولي بيتٌ علا فَلَكَ الثريَّا
تَخِرُّ لِعُظْمِ هَيْبَتِهِ البُيوتُ
الفلك: هو المدار يسير فيه جرم سماوي.
الثُرَيُّا: مجموعة كواكب أو نجوم في السماء تشكل صورة ثور.
وخَرَّ البناء: أي تهدم، وخر الشخص: أي سقط، فهو يخر خَرًّا وخَرِيرًا وخُرُورًا
وعُظْمُ الشيء: معظمه وأكثره.
إن بيتي (أو منزلتي بين الناس) عظيم وعالي الشأن حتى صار أعلى من مدار الثُرَيَّ، حتى تتهدم البيوت الأخرى أمام بيتي لهيبته وتسقط أرضا.